الأزمة بتونس في القرن التاسع عشر و محاولات الإصلاح
المقدمة :
الأزمة بتونس في القرن التاسع عشر و محاولات الإصلاح, تدرجت أوضاع الإيالة التونسية منذ وفاة حمودة باشا سنة 1814 نحو التدهور الذي تحول إلى أزمة شاملة تزامنت مع استفحال التسرب الاقتصادي الأوروبي وقد حاول بعض البايات والمصلحين الحد ذلك بالقيام بمجموعة من الاصلاحات. فما هي مظاهر هذه الأزمة ؟ وفيم تمثلت أبرز محاولات الإصلاح ؟
I – أزمة حادة وشاملة :
1- أزمة اقتصادية ومالية خانقة :
أ- عوامل الأزمة :
تفاعلت عديد العوامل لتفرز أزمة اقتصادية ومالية عميقة وشاملة :
* بقاء الاقتصاد التونسي اقتصادا تقليديا في هياكل إنتاجه ووسائله و لم يساير التطورات الاقتصادية في
أوروبا.
* تقلص الموارد الخارجية للدولة نتيجة تغير الظرفية الخارجية وانقلاب موازين القوى لفائدة القوى الأوروبية التي
نجحت في فرض إيقاف نشاط القرصنة وإلغاء الرق وعقد اتفاقيات تجارية غير متكافئة مع الإيالة التونسية مما مكن الاجانب من عديد الامتيازات وسيطرتهم على مسالك التصدير .
* عوامل سياسية متمثلة في فساد الجهاز الإداري والجبائي مما أتاح الفرصة للوزراء والموظفين للإثراء وأثقل
كاهل الفلاحين والحرفيين والتجار التونسيين بضرائب متنوعة، بالإضافة إلى إسراف الاسرة الحاكمة والمماليك
وإقدام البايات على إنجازات مكلفة وغير مجدية ودون مراعاة لإمكانيات البلاد مثل جلب مياه زغوان إلى
العاصمة وبناء قصر المحمدية وشراء تجهيزات حربية .
ب- مظاهر الأزمة :
شملت الأزمة مختلف القطاعات الاقتصادية :
* أزمة الفلاحة : نتبين هذه الأزمة من خلال تقلص المساحات المزروعة وتدهور الإنتاج لذلك شهدت البلاد مجاعات في بعض السنوات علما وأن الفلاحة تعد أهم قطاع اقتصادي وأهم نشاط للسكان لذلك سيكون لأزمة هذا القطاع تأثير على بقية الأنشطة.
* أزمة الحرف : لم تقدر الصناعات الحرفية التونسية على الصمود أمام منافسة المصنوعات الأوروبية التي تفوقها جودة وتقل عنها سعرا. ولعل أوضح مثال على ذلك صناعة الشاشية التي أزاحتها صناعة الشاشية في أوروبا من الأسواق الخارجية بما في ذلك أسواق المشرق الإسلامي فتراجع نتيجة لذلك عدد المشتغلين بها.
* أزمة التجارة : شملت هذه الأزمة كل من التجارة الداخلية والمبادلات الخارجية. فبالنسبة للتجارة الداخلية فقد شهدت ركودا يعود إلى ضيق السوق الداخلية نتيجة لفقر السكان وإلى ضريبة المحصولات بالاضافة إلى انعدام الأمن بالطرقات إبان الانتفاضات.
أما التجارة الخارجية فتتمثل أزمتها في سيطرة التجار الأوروبيين على مبادلاتها، وهيمنة التجارة الخاسرة مع أوروبا إذ أن أكثر من 10/9 المبادلات تتم مع ثلاث قوى أوروبية وهي فرنسا، ايطاليا وانجلترا وانجر عن ذلك عجز الميزان التجاري خصوصا بعد أن إنحصرت الصادرات تقريبا في منتوج وحيد وهو زيت الزيتون.
* أزمة المالية : إفلاس الدولة وخضوع البلاد للهيمنة المالية الأجنبية : أمام تفاقم الاختلال في ميزانية الدولة نتيجة تقلص الموارد الخارجية لجأ الباي إلى احداث ضرائب جديدة والترفيع في قيمتها كما لجأ إلى تخفيض قيمة عملة الريال، لكن أمام استفحال هذا الخلل اعتمد سياسة التداين سواء المقنع (غير المباشر) المتمثل في السلم وهو عبارة عن بيع الدولة لزيت الزيتون للتجـار قبـل الانتـاج أو الاقتراض المباشر بداية من 1862 من التجار والمرابين الأوروبيين المقيمين بتونس ومن البنوك الأوروبية مثل بنك أرلنجي Erlanger الفرنسي دون أن تعود هذه القروض بأية فائدة على البلاد بل أنها مهدت لهيمنة القوى الأوروبية على مالية الدولة من خلال إحداث اللجنة المالية الدولية أو الكومسيون المالي للتحكم في الخزينة التونسية وضمان مصالح الدائنين الأوروبيين بعد أن تحققت هذه القوى من إفلاس البلاد وعدم قدرتها على تسديد ديونها.
2- الأزمة الاجتماعية :
تمثلت أزمة المجتمع التونسي في مظهرين :
*انتشار الفقر والبؤس بسبب إثقال كاهل السكان بضرائب متعددة مما ادى إلى تفقير المنتجين والتجار خصوصا
في ظل غياب الرقابة على تجاوزات القياد واللزامة.
*الانهيار الديمغرافي بسبب تواتر المجاعات مثلما حصل سنتي 1849 و1856 والأوبئة مثل وباء الكوليرا سنة 1867
بالاضافة إلى مخلفات القمع الشديد للانتفاضات مثل انتفاضة القبائل سنة 1864 لكل ذلك بقي عدد سكان
البلاد في حدود مليون ساكن.
3- الأزمة السياسية : القطيعة بين الدولة والمجتمع
حافظ نظام البايات على طابعه التقليدي واعتمد على المماليك الذين سيطروا على أهم المناصب العسكرية والسياسية مثل مصطفى خزندار، في حين تم استبعاد الأهالي بما في ذلك الأعيان. وقد استغل هؤلاء المماليك مناصبهم للاثراء على حساب السكان والبلاد، كل ذلك أوجد قطيعة بين السلطة والأهالي احتدت في عهد محمد الصادق باي (1882-1859) بسبب سياسته الجبائية المجحفة مثلما حصل سنة 1864 عندما اندلعت الانتفاضة الكبرى بقيادة علي
بن غذاهم التي اعلنتها القبائل وشاركت فيها منطقة الساحل على اثر قرار مضاعفة ضريبة المجبي. وقد واجه البايليك هذه الانتفاضة بقمع وتنكيل شديدين مما زاد في تفاقم أزمة البلاد.
كما تجلت الأزمة السياسية من خلال تزايد تدخل قناصل الدول الأوروبية خاصة فرنسا، انڨلترا وايطاليا في شؤون الإيالة عبر الضغط على الباي لاتخاذ إجراءات تخدم مصالح دولهم ورعاياها بتونس. أمام هذه الأزمة الشاملة وتزايد التدخل الأجنبي تعددت محاولات الإصلاح بتونس.
II – محاولات الإصلاح
انطلقت هذه المحاولات في عهد أحمد باي (1837-1855) ثم تواصلت في عهد محمد باي (1855-1859) ومن بعده محمد الصادق باي (1859-1882) وقد التقت مجموعة من الدوافع لتفسير هذه المحاولات فإلى جانب محاولة مواجهة تزايد التحديات الأوروبية خصوصا بعد نجاح فرنسا في احتلال الجزائر المجاورة سنة 1830 نجد عوامل أخرى من بينها الاصلاحات التي تشهدها الدولة العثمانية والتي طلبت من ولاياتها تطبيقها، علاوة على التأثر باصلاحات محمد علي باشا في مصر وتأثير زيارة أحمد باي سنة 1846 إلى فرنسا التي اطلع خلالها على مظاهر التقدم الغربي إضافة إلى وجود نخبة من المصلحين في جهاز الدولة مثل خير الدين باشا وأحمد بن أبي الضياف ومحمد بيرم الخامس متأثرة بالمبادئ التحررية لعصر الأنوار وبرواد الفكر الإصلاحي في المشرق مثل الطهطاوي وقد دعت هذه النخبة بل وساهمت في مشروع الإصلاح لانتشال البلاد من أزمتها.
1- إصلاحات أحمد باي : إصلاحات عسكرية واجتماعية :
أ- الإصلاحات العسكرية :
سعى أحمد باي إلى تكوين جيش نظامي عصري قادر على حماية البلاد من التهديدات الخارجية، فأعاد تنظيم الجيش التونسي مستعينا ببعض الضباط الفرنسيين، كما عمل على تعصير تسليح الجيش عن طريق استيراد معدات حربية من فرنسا وايطاليا كالسفن والمدافع وتركيز بعض الصناعات المحلية كمصنع البارود (الذخيرة) مصنع الملف (الملابس) بتونس.
* ركز أحمد باي المدرسة الحربية بباردو سنة 1840 بهدف تكوين ضباط لتأطير الجيش، كما جلب خبراء فرنسيين وإيطاليين للتدريس بها. ويمكن اعتبار هذه المدرسة أول نواة للتعليم العصري بالبلاد لما كانت تدرسه من علوم ولغات أجنبية.
غير أن هذه الاصلاحات قد باءت بالفشل وحملت ميزانية الدولة أموالا طائلة فلم تمكن من بروز جيش حديث يحفظ سيادة البلاد وكانت من أسباب الأزمة المالية.
ب- الإصلاحات الاجتماعية :
مثلت أساسا في إلغاء الرق تدريجيا بين 1840 و1846 حيث منع سنة 1841 بيع العبيد إلى الخارج ثم منع جلب العبيد إلى تونس ليتوج ذلك بمنع بيع العبيد في الأسواق التونسية وعتقهم فسبق بذلك عديد الدول بما فيها فرنسا التي لم تلغ الرق في مستعمراتها إلا سنة 1848.
2- إصلاحات محمد باي ومحمد الصادق باي : إصلاحات سياسية
تمحورت الاصلاحات السياسية حول إصلاح نظام الحكم وتم ذلك في ظرفية اتسمت بضغوط أوروبية على البايات للقيام باجراءات تحررية تزامت مع الإصلاحات السياسية التي طبقتها الدولة العثمانية بدءا بخط شريف هيمايون سنة 1856 من طرف السلطان عبد المجيد وصولا إلى إعلان الدستور سنة 1876 من قبل السلطان عبدالحميد الثاني .
أ- عهد الأمان 1857 :
وهو قانون أعلنه محمد باي في 9 سبتمبر 1857 وتضمن إحدى عشر مادة احتوت مجموعة من الحقوق والمبادئ السياسية والاجتماعية :
– تأمين سكان المملكة على ممتلكاتهم
– مبدأ المساواة بين سكان الإيالة أمام القانون وفي دفع الضرائب
– حرية ممارسة الشعائر الدينية
– حرية التجارة للاجانب والسماح لهم بامتلاك الأراضي
– إحداث مجلس تجاري مختلط للنظر في القضايا التجارية
ب- إصدار أول دستور تونسي 1861 :
أعلن عنه محمد الصادق باي في جانفي 1861 وبدأ العمل به في أفريل من نفس السنة وهو يعد أول دستور في العالم العربي الإسلامي وقد تضمن 114 فصلا ضبطت حقوق وواجبات العائلة المالكة والوزراء والموظفين والرعايا والأجانب المقيمين بتونس . الأزمة بتونس في القرن التاسع عشر و محاولات الإصلاح
* السلطة التنفيذية من مشمولات الباي الذي جرد من التصرف في أموال الدولة كما أصبح مسؤولا أمام المجلس الأكبر.
*جعل الدستور السلطة التشريعية مشتركة بين الباي والمجلس الأكبر الذي يتألف من 60 عضوا ثلثهم من رجال الدولة و الثلثين من أعيان البلاد. ويتولّى هذا المجلس مراقبة الوزراء والباي ومحاسبتهم والنظر في الميزانية.
* السلطة القضائية لم تعد من مشمولات الباي ونظمت في إطار عشر محاكم ابتدائية بالمدن الكبرى ومجلس التحقيق (محكمة إستئناف) بالعاصمة وأوكلت مهام محكمة التعقيب إلى المجلس الأكبر.
لئن قلص دستور 1861 الحكم المطلق للبايات فإنه لم يرس نظاما تحرريا إذ أن أعضاء المجلس الأكبر لم يكونوا منتخبين وسيطر على هذه المؤسسة الوزير مصطفى خزندار وأعوانه بالإضافة إلى أن محمد الصادق باي سرعان ما اغتنم اندلاع انتفاضة 1864 ليوقف العمل بالدستور.
الأزمة بتونس في القرن التاسع عشر و محاولات الإصلاح
3ـ إصلاحات الوزير خير الدين 1873 – 1877 : إصلاحات شاملة وآخر محاولة لإنقاذ الوضع
تولى خير الدين مهام الوزير الأكبر في اكتوبر 1873 أي في ظرفية حرجة نتيجة استفحال الأزمة وتنامي الأخطار الخارجية فعمل على تطبيق البعض من أفكاره الإصلاحية التي ضمنها كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ومن أهم الإصلاحات :
* الإصلاحات الادارية : بادر خير الدين منذ توليه لمنصبه سنة 1873 بتنظيم الادارة المركزية والجهوية بهدف
القضاء على مظاهر الفساد التي ميزت عهد سلفه مصطفی خزندار ففرض تراتيب لمراقبة الڨياد والموظفين
واعتمد في الإدارة على مجموعة من المصلحين بعضهم من خريجي المدرسة الحربية بباردو.
*الإصلاحات القضائية : إصلاح القضاء من خلال بعث مجالس شرعية في الجهات بهدف تقريب القضاء إلى السكان والتعجيل في فصل القضايا. كما أحدث باتفاق مع الدول الأوروبية مجلسا عدليا مختلطا لفصل القضايا المالية بين التونسيين والأوروبيين.
*تخفيف العبء الجبائي على الأهالي عن طريق إعفاء السكان من دفع الضرائب المتخلدة بذمتهم قبل توليه لمنصبه علاوة على التخفيض من الأداءات الموظفة على الانتاج الفلاحي مثل العشر والقانون وإسقاط هذا الأداء على الغراسات الجديدة بالإضافة إلى التخفيض من الاداءات الجمركية وإصدار قانون ينظم العلاقة بين العملة الحرفيين وأعرافهم وبين المزارعين الخماسة وأصحاب الأرض. كل هذه الاجراءات حفزت المنتجين (فلاحين وحرفيين) والتجار على استئناف نشاطهم فشهد الاقتصاد التونسي انتعاشة نسبية.
* إصلاح التعليم : اعتبر خير الدين أن إصلاح أوضاع البلاد وتحديث الدولة رهين إصلاح التعليم وتعصيره من حيث برامجه ومناهجه لذلك قام في 1875 بتأسيس المدرسة الصادقية التي أدمجت في برامجها العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية فضلا عن اللغات الأجنبية لتمكين التلاميذ من الاطلاع على الحضارة الأوروبية وقد تخرج من هذه المؤسسة نخبة من المصلحين. كما قام بتحسين ظروف التعليم الزيتوني.
غير أن هذه التجربة الإصلاحية لم تصمد طويلا أمام القوى الرافضة للإصلاح والمتضررة منه مما دفع بخير الدين إلى الاستقالة سنة 1877 ومغادرة البلاد.
الأزمة بتونس في القرن التاسع عشر و محاولات الإصلاح
الخاتمة :
هكذا كان القرن التاسع عشر وخاصة النصف الثاني منه فترة عصيبة في تاريخ الإيالة التونسية على جميع المستويات وزاد فشل الإصلاحات من تفاقم الوضع خصوصا مع تزايد التغلغل الاقتصادي والمالي الأوروبي بحيث أصبح وقوع البلاد تحت الاحتلال الأجنبي بعد استقالة خير الدين مسألة وقت ليس إلا.