القضايا المطروحة في رسالة الغفران بكالوريا آداب.
أ القضايا الأدبية المطروحة في رسالة الغفران:
استأثرت القضايا الأدبية بالنصيب الأوفر من النقد: فالأدب محور الرحلة الغفرانية خاصة وأن المعري جعل ابن القارح متميزا عن سائر الشخصيات في الجنة بالذاكرة و الحفظ والرغبة في المحاورات والمجادلات اللغوية وأهم القضايا التي شغلت الشعراء في الجنة كما شغلت المعري هي الشعر.
*حد الشعر: تجلت الروح النقدية لدى المعري في تقديم تعريف “جديد” للشعر يحتل فيه الذوق مكانة هامة. ويخرج تعريف الشعر مما أصابه من جفاف عند سابقيه أمثال قدامة بن جعفر الذي يعرف الشعر بقوله:” الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى” وقد ورد تعريف المعري على لسان ابن القارح عندما سأله رضوان ” وما الأشعار”؟ فقلت” الأشعار جمع شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس”.
فالمعري في هذا الموقف التعريف يلح على السليقة والموهبة من جهة وعلى ذوق المتلقي من جهة أخرى، ثم إن لفظتي الغريزة والحس تجعلان الأدب الحق لدى المعري هو ما توفر فيه الإحساس وبذلك يسقط من ديوان الشعر كل غرض أدبي خلا من صدق العاطفة وأول هذه الأغراض هو المدح.
*مقاييس نقد الشعر : لم يكتف المعري برسم حد جديد للشعر بل عرض أيضا جملة من الآراء النقدية
تعكس ما شاع في عالم الشعر من مقاييس مثل:
“
مقاييس الكم: لهذا المقياس أنصار ومدافعون يرون جودة الشعر في طول النفس وسعة التصرف في اللغة والمعاني القدرة على تمطيط القول. ومثل نابغة بن جعدة نموذجا لهذا الفريق إذ يقول في
خصومته مع الأعشى” وإني لأطول منك نفسا وأكثر تصرفا ولقد بلغت بعدد البيوت م لا يبلغه أحد
من العرب قبلي.”
مقاييس الكيف: أنصاره يرفضون طول النفس لأن الطول يعثر بصاحبه ويلجئه إلى تركيم اللغة دون
تمييز الجيد من الرديء ودون إعمال القريحة. فالبيت الجيد حسن السيك يعدل مائة بيت دون
جودة قريحة. يقول الأعشى مخاطبا النابغة وقد أشتدت الخصومة بينهما:” وأن بينا مما بنيت ليعدل بمائة من بنابك وإن أسهبت في منطقك فإن المسهب كحاطب الليل.”
==يمثل هذان الصوتان في الخصومة الأدبية بعض ما شاع في عالم الشعر من مقاييس بعضهما يقوم على الإسهاب و يقوم على الإسهاب و يقوم البعض الآخر على الجودة. أما صوت المعري وإن كان ضمنيا فهو من أنصار الجودة الرافضين للإسهاب الذي ينزل بالشعر إلى درجة الإسفاف.
*نقد شعر المديح: قرن المعري المدح بالكذب على النفس: فالمديح لا يصدر إلا عن نفس كاذبة. وخير دليل على ذلك اعتراف ابن القارح بهذه الصفة حيث يقول: ” فلما أقمت في موقف زهاء شهر أو شهرين
وخفت في العرق من الغرق زينت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتا في رضوان.“
وقرن المعري بالمدح الافتراء والتحسين لما قبح من أخلاق أيضا. فهو تزييف للحقائق. وقد اعتبره النابغة نقيصة استغلها في خصومة ليشتم الأعشى حيث يقول:” وأنت لاه بعفارتك تفتري على كرائم قومك وإن قومك إن صدقت فخريا لك ولمقرك”. وقد أبرز المعري موقفه من المدح بينا في جعل النابغة الجعدي يشبه الأعشى المداح بالكلب النابح بحثا عن بعض الفضلات إذ يقول عن زوجته الأعشى:” لقد وفقت الهزانية في تخليتك. عاشرت منك النابح عشي فطاف الأحوية على العظام المنتبذة”. كما ظهر هذا الموقف أيضا في استنكار حمزة على ابن القارح مدحه في اللجنة معتبرا المدح دنسا وإثما في مكان مقدس إذ يقول: ويحك أفي مثل هذا الموطن تجيئني بالمديح.
* السرقة الأدبية : تمثلت السرقة الأدبية في السطو على شعر الآخرين: فابن القارح يحفظ قصائد فحول
الشعراء و يغير بعضها و ينسبها إلى نفسه لقضاء مآربه كالدخول إلى الجنة إذا بقول:” زينت لي النفس
أكاذبة أن أنظم أبياتا في رضوان خازن الجنان عملتها في وزن قفا نبك من ذكرى حبيب و عرفان” ووسمتها
برضوان.”
ثم إن المعري يتعرض لمسألة الانتحال بمعنى نسبة أبياتا لغير قائلها وذلك عندما جعل ابن القارح يلتقي
بأعشى قيس فيقول له: يا أبا بصير أنشدنا قولك:
أمن قتلة بالأنقاء دار غير محلوله
كأن لم تصحب الحي بها بيضاء عطبوله.
فيقول الأعشى:” ما هذه مما صدر عني وإنك منذ اليوم لمولع بالمنحولات”
*نقد النحاة : مارس النحاة دور النقاد و غيروا الشعر على مقاس قواعدهم فانتهوا إلى تأويلات بعيدة
عن الشائع و المألوف بل تدل أحيانا على الجنون. ولم يكن أمر التأويل هيئا عند المعري لأنه ضرب من
التجني على المبدع وعلى اللغة. لذلك أنطق الشعراء بالاحتجاج على النحويين مثال أبي على الفارسي إذ
نقل ابن القارح مجلس أستاذة قائلا:” وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله.”
وإجمال القول أن المعري قد حرص على ربط المعرفة و العلم و الأدب بدفع الشر و جلب الخير و ذلك
ما صدق قوله في اللزوميات:
إذا كان علم الناس ليس بدافع ولا نافع فالخسر للعلماء.
ب. القضايا الاجتماعية المطروحة في رسالة الغفران:
*نقد الطبقية في المجتمع : صور طبقتين متناقضتين : واحدة ترفل في النعيم و تسكن القصور و تنهل
من اللذات المادية وأخرى تعيش فقرا و بؤسا. لذلك جاءت بعض الصور محيلة على حياة الترف طورا
وحياة البؤس طورا آخر حيث يقول المعري متحدثا عن ابن القارح في سياق عودته إلى محله في الجنان
بعد فراغه من النزهة” ويتكئ على فراش من السندس” ويقول أيضا واصفا بعض مكونات الجنة” وينظر
الشيخ الجليل في رياض الجنة فيرى قصرين منفيين”. وفي المقابل نجد البيت الحقير للحطيئة” وإذا هو
ببيت في أقصى الجنة كأنه حفش أمة راعية وفيه رجل ليس عليه نور سكان الجنة وعنده شجرة قميئة
ثمرها ليس بزاك”. وتظهر الطبقية أيضا في حضور الأسياد والعبيد والجواري في جنة الغفران فهذه فاطمة
الزهراء تهب ابن القارح جاريتها لتخدمه في الجنان” قالت الزهراء: ” عليها السلام: قد وهبنا لك هذه
الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنان.”
*نقد الوساطة في المجتمع : تتجلى الوساطة في مواطن عديدة من لرحلة الغفران. ولعل أهمها وأوضحها
تلك المتصلة بشخصية ابن القارح خاصة وهو يتعجل دخول الجنة، ولم يتحقق له ذلك إلا بعد وساطات
متعددة إذ يقول ابن القارح الحشر:” فوقفت عند محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ” من هذا الأتاوى؟
– أي الغريب- فقالت فاطمة هذا رجل سأل في فلان وفلان.”
*تقديم قيم المجتمع : تراجعت القيم الأصيلة في عصر المعري وهذا ما يفسر تضاؤلها في رحلة الغفران
لتحل محلها قيم مذمومة مثل الكذب و الرياء و الخداع حتى أضحى الصدق نشازا يجازي عليه المرء
بالمكانة الحقيرة شأن الحطيئة الذي فاز ببيت حقير في أقصى الجنة لأنه كان صادقا :
يفوز غيره بنعيم الجنة وملذاتها معتمدا النفاق والكذب.
*نقد التهافت على اللذة : اشتملت جنة الغفران على أصناف شتى من الملذات أهمها المشروبات
والمأكولات و الحلويات. فتعددت مجالس الخمر وأجناس المسكرات حتى أضحت جنة الغفران
“مهرجانا خمريا”. وبما أن المشروبات تستدعي بالضرورة المأكولات فقد جمع المعري ألوانا شتى من
المأكل لعل أبرزها تلك التي اجتمعت في المأدبة التي أقامها ابن القارح. وإلى جانب لذة الخمر والأكل نجد
لذة الجنس: فقد تفنن المعري في عرض الحور العين خاصة وأن لبطله ابن القارح رغبة لا تنطفئ إذ يجمع
حوريتين هما حمدونة وتوفيق السوداء” ويقبل على كل واحدة منهما يرتشف رضابها”..
*نقد وضعية المرأة : اقتصر دور المرأة في جنة الغفران على أمرين اثنين هما:
-تحقيق المتعة لأهل الجنة.
-الوساطة لابن القارح كي يدخل الجنة. ويتجلى ذلك في وساطة فاطمة الزهراء. وهو دور سياسي سلبي يذكرنا بدور زوجات الأمراء والملوك في البلاط.
ج. القضايا السياسية المطروحة في رسالة الغفران:
إن المتأمل في الغفران أن يجد موقف المعري من السياسة وهو نفس موقفه منهم في اللزوميات فقد
عاب عليهم سياستهم الأمور بالهوى والنزوات فهم من العقل خلاء إذ يقول في اللزوميات:
يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسة
والمعري إذ ينقم على الساسة فإنه أشد نقمة على ظلمهم خاصة إذ يقول في اللزوميات أيضا:
ظلموا الرعية واستجاز واكندها وعدوا مصالحهم وهم أجراؤها.
لقد شكل المعري هذه الصورة في مواقف مختلفة:
*عبر المعري عن نقمته على الملوك دون استثناء. فأدخلهم النار ومعن في تصوير ما يلقونه من عذاب
إذ يقول:” والشوس لجبابرة من الملوك تجذبهم الزبانية إلى الجحيم والنسوة ذوات التيجان بصرن بالسنة
من الوقود فتأخذ في فروعهن وأجسادهن فيصحن: هل من فداء؟ هل من عذر يقام والشباب من أولاد
الأكاسرة يتضاعفون في سلاسل النار…فلا فادي ولا معين وكلهم مدانون، لذلك تواتر معجم من قبيل
“الشوس” و”الجبابرة” و “الظالمين.”
* نقد توتر العلاقة بين الراعي والرعية : فالإله غائب وهو رمز لغياب السلطة السياسية في حين تتخذ
الحاشية القرارات.
* نقد الجوسسة المنتشرة في عصره إذ كان للملك عين كثيرة تنتقل له ما يدور في المجتمع ليتلافى بعض
الثروات فيقول على لسان ابن الفارح وهو بصدد الإصلاح بين الندماء
“يجب أن يحذر من ملك يعبر قيري هذا المجلس فيرفع حديثه إلى الحبار الأعظم فلا يجر ذلك إلا إلى ما
تکرهان “….
كما نقد ظاهرة مستشرية في القرن الرابع وهي ظاهرة إحاطة السلطان نفسه بدوي قرباه لا لكفاءتهم
ولا لقدرتهم بل تعصبا فالرسول في الجنة وهو رمز السلطة قد أحاط نفسه بعمه حمزة و فاطمة و ابنيه
إبراهيم و القاسم و زوجته خديجة و ابن عمه علي. فهم الفاعلون الغافرون الراحمون المعاقيون فابن
القارح لما وقف بين يدي الرسول قال الرسول: من هذا الأتاوى – أي الغريب – فقالت له فاطمة: هذا
رجل سأل فيه فلان وفلان وسمت جماعة من الأئمة الطاهرين فشفع له. وقد يكون المعري بذلك يشير
إلى ما كان للمرأة في عصره من دور في البلاطات وفي توجيه السياسة التي شهدت في ذلك العصر تدخل
الجواري والنساء في شؤون الحكم.
د. نقد القضايا العقائدية المطروحة في رسالة الغفران:
حظيت القضايا العقائدية بتفكير المعري. ويمكن أن يتحدد بعضها في:
*الغفران : أعمل المعري فكره في قضية الغفران و وصلها بالعدل الإلهي على غرار المعتزلة و انتهى إلى
أن الأمرين يتعارضان لأن الله قد وهب الإنسان عقلا و بعث إليه بالأنبياء فلم يعد من دلع للمغفرة بل
إن العدل في محاسبته على ما أتى من أعمال. وغير خاف ما في طيات هذا الموقف من صدى للجدل
الفكري كان يدور بين الفرق الإسلامية ونذكر خاصة السنة التي تأخذ بظاهر النص والمعتزلة التي كانت
تعتمد العقل في التفسير.
*الشفاعة : إذا كانت المغفرة تطلب من الله فإن الشفاعة تطلب من الرسول لتشمل آل البيت وتتسع
دائرتها أكثر لتشمل قبيلة قريش. هكذا تصورها الناس في المعري على اختلاف مذاهبهم. فالشيعة
تجعل آل البيت شفيعا وأهل السنة شفيعهم الرسول. أما الحرمة التي بها تتحقق الشفاعة في جنة الغفران
فهي الكلمة الطيبة، فكل من طلب الشفاعة عبر عن قدرة على القول الحسن إخفاء لسلوك خالف به
تعاليم الدين فجعل الأعشى يدخل الجنة لأنه مدح الرسول في الدنيا والمعري ينقد مثل هذا التصور
الساذج لا لأنه لا يصل القول بالفعل فقط بل لأنه يتعارض مع العدل الإلهي أيضا. وهو أيضا يفتح الباب
رحبا يغري الإنسان بارتكاب المعاصي أملا في شفاعة على اعتبار بسيط ساذج فالأعشى حكم عليه بالإلقاء
في الجحيم ثم يشفع له الرسول ليبطل حكم الله ويجعل الأعشى في الجنة. ثم إن هذه الشفاعة قد تجمع
الفاسق والماجن في نفس المقام القدسي. ألم يستنكر النابغة الجعدي وجود الأعشى في الجنة فقال له:”
أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة وقد مت كافرا وأقررت على نفسك بالفاحشة” ثم يقول:
لحقك أن تكون في الدرك الأسفل من النار…ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت إنك قد غلط بك.
*التوبة : مثلت التوبة مبحثا من المباحثات العقائدية التي أثارها المعري في رحلة الغفران.
فأبو العلاء يسخر من فكرة التوبة التي بين الأوساط العامة. فبعد أن يقضي الإنسان من لذاته الوطر
وينحسر ظل العمر تراه يقضي إلى التوبة حجا، وهذا الإيمان ينزع بالإنسان إلى شرب السم اتكالا على ما
عنده من الترياق كما ورد في المثل، فالتوبة الحقيقية لا تكون إلا في مرحلة القدرة لتكون توبة اقتدار ومنع
للنفس عن هواها لا توبة اضطرار لما عجزت عن مأتاها.
يقول المعري في اللزوميات
فكيف ترجي أن تثاب وإنما يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ.